فصل: الخبر عن المجوسي وأوليته ومآل أمره

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


 الخبر عن ولاية الأمير أبي زكريا ممهد الدولة لآل أبي حفص بإفريقية

ورافع الراية لهم بالملك وأولية ذلك وبدايته لما قتل العادل بمراكش سنة أربع وعشرين وبويع المأمون بالأندلس بعث إلى أبي محمد عبد الله بتونس ليأخذ له البيعة على من بها من الموحدين‏.‏ وكان المأمون قد فتح أمره بالخلاف ودعا لنفسه قبل موت أخيه العادل بأيام فامتنع أبو محمد ورد رسله إليه فكتب بذلك لأخيه الأمير أبي زكريا وهو بمكانه من ولاية قابس‏.‏ وعقد له على إفريقية فأخذ له البيعة على من إليه وداخله في شأنها ابن مكي كبير المشيخة بقابس‏.‏ واتصل ذلك بأبي محمد فخرج من تونس إليهم‏.‏ ولما انتهى إلى القيروان نكر عليه الموحدون نهوضه إلى حرب أخيه وانتقضوا عليه وعزلوه‏.‏ وطير بالخبر إلى أخيه في وفد منهم فألفوه معملا في اللحاق برخاب بن محمد وأعراب طرابلس فبايعوه ووصلوا به إلى معسكرهم‏.‏ وخلع أبو محمد نفسه ثم ارتحل الأمير أبو زكريا إلى تونس فدخلها في رجب من سنة خمس وعشرين وأنزل أخاه أبا محمد بقصر ابن فاخر وتقبض على كاتبه أبي عمرو طرا من الأندلس‏.‏ واستكتبه أبو محمد فغلب على هواه وكان يغريه بأخيه فبسط الأمير أبو زكريا عليه العذاب إلى أن هلك‏.‏ ثم بعث أخاه أبا محمد في البحر إلى الخبر عن استبداد الأمير أبي زكريا بالأمر لبني عبد المؤمن لما اتصل به ما أتاه المأمون من قتل الموحدين بمراكش وخصوصاً هنتاتة وتينملل‏.‏ وكان منهم أخواه أبو محمد عبد الله المخلوع وإبراهيم وأنه أشاع النكير على المهدي في العصمة وفي وضع العقائد والنداء للصلوات باللسان البربري وإحداث النداء للصبح وتربيع شكل الدرهم وغير ذلك من سننه‏.‏ وأنه غير رسوم الدعوة وبذل أصول الدولة‏.‏ وأسقط اسم الإمام من الخطبة والسكة وأعلن بلعنه‏.‏ ووافق بلوغ الخبر بذلك وصول بعض العمال إلى تونس بتولية المأمون فصرفهم وأعلن بخلعه سنة ست وعشرين‏.‏ وحول الدعوة إلى يحيى ابن أخيه الناصر المنتزي عليه بجبال الهساكرة‏.‏ ثم اتصل به بعد ذلك عجز يحيى واستقلاله فأغفله واقتصر على ذكر الإمام المهدي وتلقب بالأمير ورسم علامته به في صدور مكتوباته‏.‏ ثم جدد البيعة لنفسه سنة أربع وثلاثين وثبت ذكره في الخطبة بعد ذكر الإمام مقتصراً على لفظ الأمير لم يجاوزه إلى أمير المؤمنين‏.‏ وخاض أولياء دولته في ذلك حتى رفع إليه بعض شعرائه في مفتتح كلمة مدحه بها‏:‏ ألا صل بالأمير المؤمنينا فأنت بها أحق العالمينا فزحزحهم عن ذلك وأبى عنه ولم يزل على ذلك إلى آخر دولته‏.‏

 الخبر عن فتح بجاية وقسطنطينة

لما استقل الأمير أبو زكريا بالأمر بتونس وخلع بني عبد المؤمن نهض إلى قسطنطينة سنة ست وعشرين فنزل بساحتها وحاصرها أياماً‏.‏ ثم داخله ابن علناس في شأنها وأمكنه من غرتها فدخلها وتقبض على واليها السيد ابن السيد أبي عبد الله الخرصاني بن يوسف العشري‏.‏ وولى عليها ابن النعمان‏.‏ ورحل إلى بجاية فافتتحها وتقبض على واليها السيد أبي عمران ابن السيد أبي عبد الله الخرصاني وصيرهما معتقلين في البحر إلى المهدية‏.‏ وأجريت عليهما هنالك الأرزاق وبعث بأهلهما وولدهما مع ابن أوماز إلى الأندلس فنزلوا بإشبيلية‏.‏ وبعث معهما إلى المهدية في الاعتقال محمد بن جامع وابنه وابن أخيه جابر بن عون بن جامع من شيوخ مرداس عوف وابن أبى الشيخ بن عساكر من شيوخ الدواودة فاعتقلوا بمطبق المهدية وكان أخوه أبو عبد الله اللحياني صاحب أشغال بجاية فصار في جملته وولاه بعدها الولايات الجليلة وكان يستخلفه بتونس في مغيبه‏.‏ وفي هذه السنة تقبض على وزيره ميمون بن موسى واستصفى أمواله وأشخصه إلى قابس فاعتقل بها مدة‏.‏ ثم غربه إلى الإسكندرية واستوزر مكانه أبا يحيى بن أبي العلا بن جامع إلى أن هلك فاستوزر بعده أبا زيد ابن أخيه الآخر محمد إلى أن هلك‏.‏

 الخبر عن مهلك ابن غانية وحركة السلطان إلى بجاية

وولاية ابنه الأمير أبي يحيي زكريا عليها لما استقل الأمير أبو زكريا بإفريقية وخلع طاعة بني عبد المؤمن صرف عزمه أولا إلى مدافعة يحيى بن غانية عن نواحي أعماله فكانت له في ذلك مقامات مذكورة وشرده عن جهات طرابلس والزاب وواركلا‏.‏ واختط بواركلا المسجد لما نزلها في أتباعه وأنزل بالأطراف عساكره وعماله لمنعها دونه‏.‏ ولم يزل ابن غانية وأتباعه من العرب من أفاريق سليم وهلال وغيرهم على حالهم من التشريد والجلاء إلى أن هلك سنة إحدى وثلاثين وستمائة وانقطع عقبه فانقطع ذكره ومحا الله آثار فتنته من الأرض‏.‏ واستقام أمر الدولة ونبضت منها عروق الاستيلاء واتساع نطاق الملك‏.‏ ونهضت عزائمه إلى تدويخ أرض المغرب فخرج من تونس سنة اثنتين وثلاثين يوم بلاد زناتة بالمغرب الأوسط‏.‏ وأغذ السير إلى بجاية فتلوم بها‏.‏ ثم ارتحل إلى الجزائر فافتتحها وولى عليها‏.‏ ثم نهض منها إلى بلاد مغراوة فأطاعه بنو منديل بن عبد الرحمن‏.‏ وجاهر بنو توجين بخلافه فنزل البطحاء وأوقع بهم‏.‏ وتقبض على رئيسهم عبد القوي بن العباس فاعتقله وبعث به إلى تونس ودوخ المغرب الأوسط وقفل راجعاً إلى حضرته‏.‏ وعقد مرجعه من المغرب لابنة الأمير أبي يحيى زكريا علي بجاية وأنزله بها‏.‏ واستوزر له يحيى بن صالح بن إبراهيم الهنتاتي وجعل شواره لعبد الله بن أبي تهدى وجبايته لعبد الحق بن ياسين وكلهم من هنتاتة‏.‏ وكتب إليه بوصيته مشتملة على جوامع الخلال في الدين والملك والسياسة يجب إثباتها لشرف مغزاها وغرابة معناها ويأتي نصها فيما بعد‏.‏ كان لهوارة هؤلاء بإفريقية ظهور وعدد منذ عهد الفتح وكانت دولة العبيديين قد جرت عليهم بكلكلها لما كان منهم في فتنة أبي يزيد كما نذكره في أخبارهم‏.‏ وبقي منهم فل بجبل أوراس وما بعده من بلاد إفريقية وبسائطها إلى أبة ومرماجنة وسبيبة وتبرسق‏.‏ ولما انقرض ملك صنهاجة بالموحدين وتغلب الأعراب من هلال وسليم على سائر النواحي بإفريقية وكثروا ساكنها وتغلبوا عليهم أخذ هذا الفل بمذهب العرب وشعارهم وشارتهم في اللبوس والزي والظعون وسائر العوائد‏.‏ وهجروا لغتهم العجمية إلى لغتهم ثم نسوها كأن لم تكن لهم شأن المغلوب في الاقتداء بغالبه‏.‏ ثم كان لهم انحياش أول الدولة إلى الطاعة بغلب عبد المؤمن وقومه‏.‏ فلما استبد الأمير أبو زكريا وانقلبت الدولة إلى بني أبي حفص ظهر منهم التياث في الطاعة وامتناع عن المغرم وأضرار بالسابلة فاعتمل السلطان في أمرهم‏.‏ وخرج من تونس سنة ست وثلاثين مورياً بالغزو إلى أهل أوراس وبعث في احتشادهم فتوافدوا في معسكره‏.‏ ثم صبحهم في عسكره من الموحدين والعرب ففتك بهم قتلا وسبياً واكتسح أموالهم وقتل كبيرهم أبو الطيب بعرة ابن حناش وأفلت من أفلت منهم ناجياً بنفسه عارياً من كسبه فألانت هذه البطشة من حدهم وخضدت من شوكتهم واستقاموا على الطاعة بعد‏.‏ الخبر عن ثورة الهرغي بطرابلس ومآل أمره كان هذا الرجل من مشيخة الموحدين وهو يعقوب بن يوسف بن محمد الهرغي ويكنى بأبي عبد الرحمن وكان الأمير أبو زكرياء وقد عقد له على طرابلس وجهاتها وسرح معه عسكراً من الموحدين لحمايتها من أعراب دباب من بني سليم فقام بأمرها واضطلع بجباية رعاياها‏.‏ واستخدم العرب والبربر الذين بساحتها وكان بينه وبين الجوهري مصدوقة ود‏.‏ فلما قتل الجوهري سنة تسع وثلاثين كما قدمناه استوحش لها يعقوب الهرغي واستقدمه السلطان فتلكأ وبعث عنه أخاه ابن أبي يعقوب فازداد نفاره وحدثته نفسه بالاستبداد لما كان أثرى من الجباية وشعر لها أهل البلد‏.‏ فانطلقوا وهم يتخافون أن يعاجلوه قبل مداخلته العرب في أمره فتقبضوا عليه وعلى أخيه وعلى أتباعهما ليلة أجمعوا الثورة في صباحها‏.‏ وطيروا بالخبر إلى الحضرة فنفذ الأمر بقتلهم فقتلوا وبعث برؤوسهم إلى باب السلطان ونصبت أشلاؤهم بأسوار طرابلس وأصبحوا عبرة للمعتبرين وأنشد الشعراء في التهنية بهم وقامت للبشائر سوق لكائنتهم‏.‏ وكان ممن قتل معه محمد ابن قاضي القضاة بمراكش أبي عمران بن عمران‏.‏ وصل علقا إلى تونس وقصد طرابلس فاتصل بهذا الهرغي ونمى عنه أنه أنشأ خطبة ليوم البيعة فكانت سائقة حتفه‏.‏ وكان بالمهدية رجل من الدعاة يعرف بأبي حمراء اشتهر بالنجدة في غزو البحر وقدم على الأسطول فردد الغزو حتى هابه الغزى من أمم الكفر وأمنت سواحل المسلمين من طروقهم‏.‏ وطار له فيها ذكر ونمي أنه كان مداخلاً للجواهري والهرغي وأن القاضي بالمهدية أبا زكرياء البرقي اطلع على دسيستهم في ذلك فنفذ الأمر السلطاني للوالي بها أبي علي بن أبي موسى بن أبي حفص بقتل ابن أبي الأحمر وإشخاص القاضي إلى الحضرة معتقلاً فأمضى عهده‏.‏ ولما وصل البرقي إلى تونس فحص السلطان عن شأنه فبرئ من مداخلتهم فسرحه وأعاده إلى بلده‏.‏ وقتل بالحضرة رجل آخر من الجند اتهم بمداخلتهم وسعايته في قيامهم وكان له تعلق برحاب بن محمود أمير دباب فأوعز السلطان إلى بعض الدعار من زناتة فقتله غيلة ثم أهدر دمه‏.‏ وتتبع أهل هذه الخائنة بالقتل حتى حسم الداء ومحا شوائب الفتنة‏.‏

 الخبر عن بيعة بلنسية ومرسية وأهل شرق الأندلس ووفدهم

لما استقل أبو جميل زيان بن أبي الحملات مدافع بن أبي الحجاج بن سعد ابن مردنيش بملك بلنسية وغلب عليها السيد أبا زيد ابن السيد أبي حفص وذلك عند خمود ريح بني عبد المؤمن بالأندلس وخروج ابن هود على المأمون ثم فتنته هو مع ابن هود وثورة ابن الأحمر بأرجونة واضطراب الأندلس بالفتنة‏.‏ وأسف الطاغية إلى ثغور الأندلس من كل جانب‏.‏ وزحف ملك أرغون إلى بلنسية فحاصرها وكانت للعدو سنة ثلاث وثلاثين سبع محلات لحصار المسلمين‏:‏ اثنتان منها على بلنسية وجزيرة شقر وشاطبة‏.‏ ومحلة بجيان ومحلة بطبيرة ومحلة بمرسية ومحلة بلبلة وأهل جنوة من وراء ذلك على سبتة‏.‏ ثم تملك طاغية قشتالة مدينة قرطبة وظفر طاغية أرغون بالكثير من حصون بلنسية والجزيرة وبنى حصن أنيشة لحصار بلنسية‏.‏ وأنزل بها عسكره وانصرف فاعتزم زيان بن مردنيش على غزو من بقي بها من عسكره واستنفر أهل شاطبة وشقر وزحف إليهم فانكشف المسلمون وأصيب كثير منهم‏.‏ واستشهد أبو الربيع بن سالم شيخ المحدثين بالأندلس وكان يوماً عظيماً وعنواناً على أخذ بلنسية ظاهراً‏.‏ ثم ترعدت عليها سرايا العدو‏.‏ ثم زحف إليها طاغية أرغون في رمضان سنة خمس وثلاثين فحاصرها واستبلغ في نكايتها‏.‏ وكان بنو عبد المؤمن بمراكش قد فشل ريحهم وظهر أمر بني أبي حفص بأفريقية فأمل ابن مردنيش وأهل شرق الأندلس الأمير أبا زكرياء للكرة وبعثوا إليه بيعتهم وأوفد عليه ابن مردنيش كاتبه الفقيه أبا عبد الله بن الأبار صريخاً فوفد وأدى بيعتهم في يوم مشهود بالحضرة وأنشد يستصرخه فيها للمسلمين وهي هذه‏:‏ أدرك بخيلك خيل الله أندلسا إن السبيل إلى منجاتها درسا لها من عزيز النصر ما التمست فلم يزل منك عز النصر ملتمسا عاش مما تعانيه حشاشتها فطالما ذاقت البلوى صباح مسا كل شارقة إلمام بائقة يعود مأتمها عند العدى عرسا وكل غاربة أجحاف نائبة تثني الأمان حذاراً والسرور أسا قاسم الروم لا نالت مقاسمهم إلا عقائلها المحجوبة الأنسا وفي بلنسية منها وقرطبة ما يذهب النفس أو ما ينزف النفسا مدائن حلها الأشراك مبتسماً جذلان وارتحل الإيمان منبئسا وصيرتها العوادي عائثات بها يستوحش الطرف منها ضعف ما أنسا ما للمساجد عادت للعدى بيعاً وللنداء يرى أثناءها جرسا لهفاً عليها إلى استرجاع فائتها مدارساً للمثاني أصبحت درسا وأربعاً غنمت أيدي الربيع بها ما شئت خلع من موشية وكسا كانت حدائق للأحداق مونقة فصوخ النضر من أدواحها وعسا وحال ما حولها من منظر عجب يستوقف الركب أو يستركب الجلسا سرعان ما عاث جيش الكفر واحرباً عيث الدبا في مغانيها التي كبسا ورج أرجاءها لما أحاط بها فغادر الشم من أعلامها خنسا خلا له الجو وامتدت يداه إلى إدراك ما لم تنل رجلاه مختلسا وأكثر الزعم بالتثليث منفرداً ولو رأى راية التوحيد ما نبسا صل حبلها أيها المولى الرحيم فما أبقى المراس لها حبلا ولا مرسا وأحي ما طمست منها العداة كما أحييت من دعوة المهدي ما طمسا أيام صرت لنضر الحق مستبقاً وبت من نور ذاك الهدي مقتبسا وقمت فيها لأمر الله منتصراً كالصارم اهتز أو كالعارض انبجسا تمحو الذي كتب التجسيم من ظلم والصبح ماحية أنواره الغلسا هذي رسائلها تدعوك من كتب وأنت أفضل مرجو لمن يئسا وافتك جارية بالنخح راجية منك الأمير الرضي والسيد الندسا خاضت خضارة يعلوها ويخفضها عبابه فتعاني اللين والشرسا وربما سبحت والريح عاتية كما طلبت بأقصى شدة الفرسا مؤيد لو رمى نجماً لأثبته ولو دعا أفقاً لبى وما احتبسا إمارة تحمل المقدار رأيتها ودولة عزها يستصحب القعسا يبدي النهار بها من ضوئه شنبا ويطلع الليل من ظلمائه لعسا كأنه البدر والعلياء حالته تحف من حوله شهب القنا حرسا له الثرى والثريا خطتان فلا أعز من خطتيه ما سما ورسا يا أيها الملك المنصور أنت لها علياء توسع أعداء الهدى تعسا وقد تواترت الأنباء إنك من يحيى بقتل ملوك الصفر أندلسا طهر بلادك منهم إنهم نجس ولا طهارة ما لم تغسل النجسا وأوطئ الفيلق الجرار أرضهم حتى يطأطئ رأس كل من رأسا وانصر عبيداً بأقصى شرقها شرقت عيونهم أدمعا تهمي زكاً وخسا هم شيعة الأمر وهي الدار قد نهكت داء متى لم تباشر حسمه انتكسا أملأ هنيئاً لك التمكين ساحتها جرداً سلاهب أو خطية دعسا وكانت قيمة ذلك مائة ألف دينار‏.‏ وجاءهم الأسطول بالممد وهم في هذا الحصار فنزل بمرسى دانية واستفرغ الممد بها ورجع بالناض إذا لم يخلص إليه من قبل ابن مردنيش من يتسلمه‏.‏ واشتد الحصار على أهل بلنسية وعدمت الأقوات وكثر الهلاك من الجوع فوقعت المراوضة على إسلام البلد فتسلمها جاقمة ملك أركون في صفر سنة ست وثلاثين وخرج عنها ابن مردنيش إلى جزيرة شقر فأخذ البيعة على أهلها للأمير أبي زكريا‏.‏ ورجع ابن الأبار إلى تونس فنزل على السلطان وصار في جملته وألح العدو على حصار ابن مردنيش بجزيرة شقر وأزعجه عنها إلى دانية فدخلها في رجب من سنته وأخذ عليهم البيعة للأمير أبي زكرياء‏.‏ ثم داخل أهل مرسية وقد كان بويع بها أبو بكر عزيز بن عبد الملك بن خطاب في مفتتح السنة فافتتحها عليه في رمضان من سنته وقتله وبعث ببيعتهم إلى الأمير أبي زكرياء‏.‏ وانتظمت البلاد الشرقية في طاعته وانقلب وفد ابن مردنيش إليه من تونس بولايته على عمله سنة سبع وثلاثين ولم يزل بها إلى أن غلبه ابن هود على مرسية وخرج عنها إلى لقنت الحصون سنة ثمان وثلاثين إلى أن أخذها طاغية برشلونة من يده سنة أربع وأربعين وأجاز إلى تونس والبقاء لله‏.‏

 الخبر عن المجوسي وأوليته ومآل أمره

اسم هذا الرجل‏:‏ محمد بن محمد الجوهري وكان مشتهراً بخدمة ابن أكمازير الهنتاتي والي سبتة وغمارة من أعمال المغرب‏.‏ وكان حسن الضبط مترامياً إلى الرياسة‏.‏ ولما ورد على تونس وتعلق بأعمال السلطان نظر فيما يزلفه ويرفع من شأنه فوجد جباية أهل الخيام بأفريقية من البرابرة الموطنين مع الأعراب غير منضبطة ولا محصلة في ديوان فنبه على أنها مأكلة للعمال ونهبة للولاة فدفع إليها فأنمى جبايتها وقرر ديوانها وصارت عملاً منفرداً يسمى عمل العمود وطار له بذلك بين العمال ذكر جذب له السلطان أبو زكرياء بضبعه وعول على نصيحته وأثره باختصاصه‏.‏ ووافق ذلك موت أبي الربيع الكنفيتي المعروف بابن الغريغر صاحب الأشغال بالحضرة فاستعمل مكانه وكان لا يلي ذلك الخطة إلا كبير من مشيخة الموحدين فرشحه السلطان لها لكفايته وعنائه فظفر منها بحاجة نفسه واعتدها ذريعة إلى أمنيته فاتخذ شارة أرباب السيوف وارتبط الخيل واتخذ الآلة في حروبه مع أهل البادية إذا احتاج إليها‏.‏ وأسف أثناء ذلك أبا علي بن النعمان وأبا عبيد الله بن أبي الحسن بعدم الخضوع لهما فنصبا له وأغريا به السلطان وحفراه غائلة عصيانه‏.‏ وكان فيه إقدام أوجد به السبيل على نفسه ويحكى أن السلطان استشاره ذات يوم في تقويم بعض أهل الخلاف والعصيان فقال له‏:‏ عندي ببابك ألف من الجنود أرم بها من تشاء من أمثالهم فأعرض عنه السلطان واعتدها عليه‏.‏ وجعلها مصداقاً لما نمي عنه‏.‏ ولما قدم عنه عبد الحق بن يوسف بن ياسين على الأشغال ببجاية مع زكرياء ابن السلطان أظهر له الجوهري أن ذلك بسعايته وعهد إليه بالوقوف عند أمره والعمل بكتابه فألقى عبد الحق ذلك إلى الأمير أبي زكرياء فقام لها وقعد وأنف من استبداد الجوهري عليه‏.‏ ولم تزل هذه وأمثالها تعد عليه حتى حق عليه القول فسطا به الأمير أبو زكرياء وتقبض عليه سنة تسع وثمانين ووكل امتحانه إلى أعدائه ابن برعان والندرومي فتجلد على العذاب وأصبح في بعض أيامه ميتاً بمحبسه‏.‏ ويقال خنق نفسه وألقي شلوه بقارعة الطريق فتفنن أهل الشمات في العيث به وإلى الله المصير‏.‏

 الخبر عن فتح تلمسان ودخول بني عبد الواد في الدعوة الحفصية

كان الأمير أبو زكرياء منذ استقل بأمر أفريقية واقتطعها عن بني عبد المؤمن كما ذكرناه متطاولاً إلى ملك الحضرة بمراكش والاستيلاء على كرسي الدعوة‏.‏ وكان يرى أن بمظاهرة زناتة له على شأنه يتم له ما يسمو إليه من ذلك فكان يداخل أمراء زناتة فيه ويرغبهم ويراسلهم بذلك على الأحياء من بني مرين وبني عبد الواد وتوجين ومغراوة‏.‏ وكان يغمراسن منذ تقلد طاعة آل عبد المؤمن أقام دعوتهم بعمله متحيزاً إليهم سلماً لوليهم وحرباً على عدوهم‏.‏ وكان الرشيد منهم قد ضاعف له البر والخلوص وخطب منه مزيد الولاية والمصافاة وعاوده الإتحاف بأنواع الألطاف والهدايا تغمناً لمسراته وميلاً إليه عن جانب أقتاله بني مرين المجلبين على المغرب والدولة فاستكبر السلطان أبو زكرياء اتصال الرشيد هذا بيغمراسن وآله وهم جواره بالمحل القريب‏.‏ وبينما هو على ذلك إذ وفد عليه عبد القوي أمير بني توجين وبعض ولد منديل بن عبد الرحمن أمراء مغراوة صريخاً على يغمراسن فسهلوا له أمره وسولوا له الاستبداد على تلمسان‏.‏ وجمع كلمة زناتة وإعداد ذلك ركاباً لما يرومه من امتطاء ملك الموحدين بمراكش وانتظامه في أمره وسلماً لارتقاء ما يسمو إليه من ملكه وباباً لولوج المغرب على أهله فحركه أملاؤهم وهزه إلى النعرة صريخهم وأهاب بالموحدين وسائر الأولياء والعساكر إلى الحركة على تلمسان‏.‏ واستنفر لذلك سائر البدو من الأعراب الذين في طاعته من بني سليم ورياح بظعنهم فأهطلوا لداعيه‏.‏ ونهض سنة تسع وثلاثين في عساكر ضخمة وجيوش وافرة‏.‏ وسرح إمام حركته عبد القوي بن العباس وأولاد منديل بن محمد لحشد من بأوطانهم من أحياء زناتة وذؤبان قبائلهم وأحياء زغبة أحلافهم فى العرب‏.‏ وضرب معهم موعداً لموافاتهم في تخوم بلادهم‏.‏ ولما نزل صحراء زاغر قبلة تيطري منتهى مجالات رياح وبني سليم من المغرب تثاقل العرب عن الرحلة بظعنهم في ركاب السلطان وتلووا بالمعاذير فألطف الأمير أبو زكرياء الحيلة‏.‏ زعموا في استنهاضهم وتنبيه عزائمهم فارتحلوا معه حتى نازل تلمسان بجميع عساكر الموحدين وحشود زناتة وظعن العرب بعد أن كان قدم إلى يغمراسن الرسل من مليانة بالأعذار والدعاء إلى الطاعة فرجعهم بالخيبة‏.‏ ولما حلت عساكر الموحدين بساحة البلد وبرز يغمراسن وجموعه للقاء بصحبتهم ناشئة السلطان بالنبل فانكشفوا ولاذوا بالجدران وعجزوا عن حماية الأسوار فاستمكنت المقاتلة من الصعود‏.‏ ورأى يغمراسن أن قد أحيط بالبلد فقصد باب العقبة من أبواب تلمسان ملتقاً في ذويه وخاصته‏.‏ واعترضه عساكر الموحدين فصمم نحوهم وجندل بعض أبطالهم فأفرجوا له ولحقوا بالصحراء ونسلت الجيوش إلى البلد من كل حدب فاقتحموه وعاثوا فيه بقتل النساء والصبيان واكتساح الأموال‏.‏ ولما تجلى غشي تلك الهيعة وحسر تيار الصدمة وخمدت نار الحرب راجع الموحدون بصائرهم وأنعم الأمير أبو زكرياء نظره فيمن يقلده أمر تلمسان والمغرب الأوسط وينزله بثغرها لإقامة دعوته الدائلة من دعوة بني عبد المؤمن والمدافعة عنها‏.‏ واستكبر ذلك أشرافهم وتدافعوه وتبرأ أمراء زناتة ضعفاً عن مقاومة يغمراسن علماً بأنه الفحل الذي لا يقرع أنفه ولا يطرق غيله ولا يصد عن فريسته‏.‏ وسرح يغمراسن الغارات في نواحي المعسكر فاختطف الناس من حوله واطلعوا من المراقب عليه‏.‏ ثم بعث وفده متطارحين على السلطان في الملامة والاتفاق واتصال اليد على صاحب مراكش طالب الوتر في تلمسان وأفريقية‏.‏ وأن يفرده بالدعوة الموحدية فأجابه إلى ذلك‏.‏ ووفدت أمه سوط النساء للاشتراط والقبول فأكرم موصلها وأسنى جائزتها وأحسن وفادتها ومنقلبها وسوغ ليغمراسن في شرطه بعض الأعمال بأفريقية وأطلق أيدي عماله على جبايته وارتحل إلى حضرته لسبع عشرة ليلة من نزوله‏.‏ وفي أثناء طريقه وسوس إليه الموحدون باستبداد يغمراسن وأشاروا بإقامة منافسيه من زناتة وأمراء المغرب الأوسط شجى في صدره ومعترضاً عن مرامه وإلباسهم ما لبس من شارة السلطان وزيه فأجابهم وقلد كلا من عبد القوي بن عطية التوجيني والعباس بن منديل المغراوي ومنصور المليكشي أمر قومه ووطنه وعهد إليهم بذلك وأذن لهم في اتخاذ الآلة والمراسم السلطانية على سنن يغمراسن قريعهم فاتخذوه بحضرته وبمشهد من ملأ الموحدين‏.‏ وأقاموا مراسمها ببابه‏.‏ وأغذ السير إلى تونس قرير العين بامتداد ملكه وبلوغ وطره والإشراف على إذعان المغرب لطاعته وانقياده لحكمه وإدالة دعوة بني عبد المؤمن فيه بدعوته فدخل الحضرة واقتعد أريكته وأنشده الشعراء في الفتح وأسنى جوائزهم وتطاولت إليه أعناق الآفاق كما نذكره‏.‏ الخبر عن دخول أهل الأندلس في الدعوة الحفصية ووصول بيعة إشبيلة وكثير من أمصارها كان بإشبيلية أبو مروان أحمد الباجي من أعقاب أبي الوليد وأبو عمرو بن الجد من أعقاب الحافظ أبي بكر الطائر الذكر ورثا التجلة عن جدهما وأجراهما الخلفاء على سننهم‏.‏ وكانا مسمتين وقورين متبوعين من أهل بلدهما مطاعين في أفقهما‏.‏ وكان السادة من بني عبد المؤمن يعولون على شوراهما في مصرهما‏.‏ وكان بعدوة الأندلس التياث في الملك منذ وفاة المستنصر وانتزى بها السادة وافترقوا‏.‏ وثار بشرق الأندلس ابن هود وزيان بن مردنيش وبغربها ابن الأحمر‏.‏ وغلب ابن هود الموحدين وأخرجهم عنها‏.‏ وملك ابن هود إشبيلية سنة ست وعشرين واعتقل من كان بها من الموحدين‏.‏ ثم انتقضوا عليه سنة تسع بعدها وأخرجوا أخاه أبا النجاة سالماً وبايعوا الباجي وتسمى بالمعتضد واستوزر أبا بكر بن صاحب الرد ودخلت في بيعته قرمونة وحاصره ابن هود فوصل الباجي يده بمحمد بن الأحمر الثائر بأرجونة وجيان بعد أن ملك قرطبة‏.‏ وزحف ابن هود إليهم فلقوه وهزموه ورجعوا ظافرين فدخل الباجي إلى إشبيلة وعسكر بخارجها ثم انتهز فرصته في إشبيلية وبعث قريبه ابن أشقيلولة مع أهل أرجونة والنصارى إلى فسطاط الباجي فتقبضوا عليه وعلى وزيره وقتلوهما سنة إحدى وثلاثين‏.‏ ودخل ابن الأحمر إشبيلية ولشهر من دخوله إليها ثار عليه أهلها ورجعوا إلى طاعة ابن هود وولى عليهم أخاه أبا النجاة سالماً‏.‏ ولما هلك محمد بن هود سنة خمس وثلاثين صرف أهل إشبيلية طاعتهم إلى الرشيد بمراكش وولوا على أنفسهم محمد بن السيد أبي عمران الذي قدمنا أنه كان والياً بقسطنطينة وأن الأمير أبا زكرياء غلبه عليها واعتقله وبعث ولده إلى الأندلس فربي محمد هذا في كفالة أمه بإشبيلية‏.‏ ولما سار أهل إشبيلية للرشيد قدموه على أنفسهم وتولى كبر ذلك أبو عمرو بن الجد وبعثوا وفدهم إلى الحضرة فأقر السيد أبا عبد الله على ولايتهم‏.‏ واستمرت في دعوة الرشيد إلى أن هلك سنة أربعين‏.‏ وقد ملك الأمير أبو زكرياء تلمسان وأشرف على أعمال المغرب فاقتدوا بمن تقدم إلى بيعته من أهل شرق الأندلس ببلنسية ومرسية وبايعوا للأمير أبي زكرياء بن أبي محمد بن أبي حفص واقتدى بهم أهل شريش وطريف وبعثوا إليه وفدهم ببيعته سنة إحدى وأربعين‏.‏ وسألوا منه ولاية بعض أهل قرابته فولى عليهم أبا فارس ابن عمه يونس ابن الشيخ أبي حفص فقدم إشبيلية وقام بأمرها وسلم له ابن الجد في نقضها وإبرامها‏.‏ ثم انتقض عليه سنة ثلاث وأربعين وطرده من البلد إلى سبتة واستبد بأمر إشبيلية ووصل يده بالطاغية‏.‏ وعقد له السلم وضرب على أيدي أهل المغاورة من الجند وأسقطهم من ديوانه فقتلوه بإملاء قائدهم شفاف واستقل بأمر إشبيلية‏.‏ ورجع أبا فارس بن أبي حفص وولاه بدعوة الأمير أبي زكرياء فسخطهم الطاغية لذلك وانتقض عليهم وملك قرمونة ومرشانة‏.‏ ثم زحف إلى حصرهم وسألوه الصلح فامتنع‏.‏ وصار أمر البلد شورى بين القائد شفاف وابن شعيب ويحيى بن خلدون ومسعود بن خيار وأبي بكر بن شريح ويرجعون في أمرهم آخراً إلى الشيخ أبي فارس بن أبي حفص‏.‏ وأقاموا في هذا الحصار سنتين ونازلهم ابن الأحمر في جملة الطاغية وبعث إليهم الأمير أبو زكرياء المدد وجهز له الأسطول لنظر أبي الربيع بن الغريغر التينمللي‏.‏ وأوعز له إلى سبتة بتجهيز أسطولهم معه فوصل إلى وادي إشبيلية وغلبهم أسطول الطاغية على مرسية فرجع‏.‏ واستولى العدو عليها صلحاً سنة ست وأربعين بعد أن أعانهم ابن الأحمر بمدده وميرته‏.‏ وقدم الطاغية على أهل الدخن بها عبد الحق بن أبي محمد البياسي من آل عبد المؤمن والأمر لله‏.‏